السيادة في حق الرسول و موافقتها للسنة

سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم

يلاحظ في الآونة الأخيرة وبشكل مثير أن بعض الاتجاهات الدينية تبالغ في مسألة إنكار القول بلفظ السيادة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم عند ذكر اسمه، وخاصة فيما يتعلق بقراءة الصلاة الإبراهيمية المشهورة، سواء عقب التشهد في الصلاة أو عند ختم الدعاء؛ وتعتبر ''سيدنا'' مخالفة لما ورد في السنة كما يستفاد -حسب فهمهم- من سياق جملة نصوص حديثية نبوية أهمها: - الحديث: '' من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد''ـ(1)- الحديث: '' لا تسودني في الصلاة''(2)

- الحديث: ''··يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد''(3)·

وغالبا ما يسقطون مثل هذا الكلام على كل لفظ زائد مقترن باسم الرسول صلى الله عليه وسلم، نحو لفظ ''مولانا'' أثناء القول:''مولانا محمد'' أو'' مولانا رسول الله'' صلى الله عليه وسلم·

نعم، إن التمسك بالسنة والأخذ بها أمر محمود ومطلوب، ومن أوجه ذلك-كما هو معلوم- ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة خِلقية أو خلقية. لكن هذا الأمر يبقى على إطلاقه لأنه يحتاج إلى مزيد بيان لمنهج البحث وتملك أدوات الاستقراء العلمي الدقيق للنصوص الشرعية قرآنا كانت أو سنة من أجل فقه كيفية الأخذ بسنة من السنن كيفما كانت، حتى لا تحملنا الرغبة في الإقتداء بسنة ما على ارتكاب ما يخالف السنة نفسها، وأحيانا الخروج عنها كما هو حال القضية المطروحة·وغير خاف أن كل تقصير في طريقة البحث عن حقيقة من الحقائق سواء كان من الجانب المنهجي أو العلمي أو الآلي يؤدي لا محالة بصاحبه إلى استنتاجات خاطئة، وقد يجر ذلك إلى منزلق خطير هو إصدار أحكام جزافية بناء على تلك النتائج التي يعتقد صحتها، فينتشر ذلك في عامة الناس وتعم به البلوى، وما أخطر مثل هذا!!!

ولتمحيص تلك الأدلة الحديثية التي غالبا ما يستدل بها منكرو لفظ ''سيدنا'' وشبهه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل إدراج الأدلة النقلية والعقلية التي ترجح جواز هذا الفعل بدل إنكاره وتؤيد سنيته بدل تبديعه، ننظر فيها تباعا:

- فأما الدليل الحديثي الأول، فمعناه عام وشبيه باللفظ النبوي المشهور:·"كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة·'' وكل ذلك يقوم دليلا-بالأساس
- على أن من ابتدع بدعة في أمور جوهر الدين كالعبادات: من غسل ووضوء وصلاة وصوم وحج·أو المعاملات على خلاف ما شرعه الله لرسوله وارتضاه له يكون مردودا عليه فعله ويؤثم عليه؛ كما قد يؤخذ من هذا الدليل وذاك ترهيب من يريد التجاسر على أمر الدين تبعا لمزاجه وهواه رغبة في نيل مصلحة أو سعيا في تحقيق منفعة.·

- وأما الدليل الحديثي الثاني، فهو مجرد كلام منسوب إلى رسول الله كذبا، وحديث موضوع لا أصل له سندا ومتنا كما نبه عليه المحققون، فلا عمدة عليه-إذن- ولا عمل به البثة·
- بينما الدليل الحديثي الثالث، فعلى الرغم من صحته سندا ومتنا فإنه لا يعني بالضرورة أن زيادة لفظ ''سيدنا'' عند التصلية بدعة مثلما يظهر من خلال منطوق النص فحسب، دونما النظر إلى قرينة سبب الورود، والمعنى المقصود، واستقراء باقي النصوص، وإجراء ما يلزم من المقارنات والمقابلات.·

صحيح أن جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال-كما ورد في النص الحديثي الثالث- كان صريحا وواضحا، لكن ما ينبغي أن يعلم أنه صلى الله عليه وسلم يروى عنه أنه قبل الجواب أطال في السكوت ثم أجاب، وفهم سكوته هذا على أنه كان يتردد في قول ''سيدنا'' في حقه بنفسه، ففضل أن يجيب بما نقل عنه وتضمنه حديثه الشريف، وحمل ذلك بطبيعة الحال على التواضع منه صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وأنه قد سئل عن أمر يتعلق به هو شخصيا فكان رده صلى الله عليه وسلم قمة في التواضع، وكيف لا وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وهو الذي خصه ربه بالخطاب حين امتدحه وأثنى عليه بقوله: '' وإنك لعلى خلق عظيم''(4)·

وإن ما يعضد هذا النوع من الفهم ويقوي منحاه ويحمله على جادة الصواب هو وجود نصوص حديثية أخرى-بغض النظر عن القرآن- تضمنت لفظة السيادة تنصيصا، وصدرت من الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه عن نفسه كنحو قوله فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه'': أنا سيد ولد آدم ولا فخر'' وفي رواية '' أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع''(5)؛ والواضح من النصين أن هاهنا مقاما يقتضي مثل هذا المقال، وهو إظهار رسول الله صلى الله عليه وسلم لنعمة الله عليه، تبعا لقول الله تبارك وتعالى: '' وأما بنعمة ربك فحدث''(6)

·ولعل ما يقوم دليلا على صحة هذا الملحظ هو الحديث الذي نقل عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ياأيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" وتكفي هذه الإشارة منه صلى الله عليه وسلم بأنه يذم من المدح ما يتجاوز الحد ولا يناسب المقام مراعاة لمقتضى الحال ووازع الخلق والأدب·(7)

والحق أن تسييد الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو زيادة في الإخبار بواقع سلوكه صلى الله عليه وسلم (8) كما نبه على ذلك الحنفية والشافعية (9)؛ وقد انفرد المالكية في هذا الباب بإشارة لطيفة وهي أن الأدب يراعى قبل السنة ما دامت المعاملات في أصلها تحمل على التوفيق، عكس العبادات التي لايعمل فيها إلا بالتوقيف والتوقيت كما هو معلوم·وقد استند المالكية في هذا على ما جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في مسألة الإمامة بالناس في الصلاة كما يستفاد من نص الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود قال: '' كنا عند عائشة رضي الله عنها فذكرنا المواظبة على الصلاة والتعظيم لها، قالت: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه فحضرت الصلاة فأذن، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقيل له إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام في مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس، وأعاد فأعادوا له فأعاد الثالثة، فقال إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس فخرج أبو بكر فصلى فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة فخرج يهادي بين رجلين كأني أنظر رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه، قيل للأعمش: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأبو بكر يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر فقال برأسه نعم" رواه أبو داود عن شعبة عن الأعمش بعضه، وزاد أبو معاوية: جلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلي قائما"(10)

ولذلك أثر عن أبي بكر رضي الله عنه قوله:'' ماكان لإبن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم''؛ لأنه- كما يحكي القاضي عياض نفسه- لا يجوز لأحد أن يؤمه، ولا يصح التقدم بين يديه في الصلاة ولا غيرها، لا لعذر ولا لغيره؛ وقد نهى الله المؤمنين عن ذلك بصفة أشمل كما دلت عليه الآية الكريمة في مطلع سورة الحجرات: '' يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله''
·وغني عن البيان، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حظي بأرقى صور التشريف والإكبار من لدن الله تعالى قبل أي أحد، بحيث ما ثبت في نص من القرآن أن نادى الله عليه باسمه أو اسم آخر غير مشرف ولا معظم على خلاف الأنبياء(11)·

والجدير بالذكر، أن ترك لفظ ''سيدنا'' عند ذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم لا يترتب عليه أي إثم ولا ذنب، لأنه من باب ما يندب في حقه صلى الله عليه وسلم؛ ولا أدري كيف وضع في منزع الخلاف بين علمائنا منعا وجوازا؛ لكن مع ذلك فمن سيد الرسول صلى الله عليه وسلم عند ذكره يكون أفضل ثوابا وأجرا على من تركه،(12) لما في ذلك من كبير احترام لمقام سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيم شأنه، امثتالا لقول الله تعالى:'' لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا''(13)

ثم ما يزيدنا يقينا في جواز تسييد مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر الإلهي الموجه إلى فئة المومنين بلزوم الصلاة على سيدنا محمد- بعد إقرار صلاته سبحانه عليه بمعية ملائكته-، وقد أنزل في هذا الأمر قرآنا يتلى ويتعبد به حين قال الحق سبحانه وتعالى:'' إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"(14)، فلزم من آداب الصلاة عليه تسييده، تأدبا وتعظيما وتشريفا، عملا بفحوى الآية الكريمة '' لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض'' (15)
·ومما ينبغي أن يعلم أن كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يتداولون هذا اللفظ فيما بينهم بداعي التشريف والتعظيم، كنحو ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:'' كان عمر يقول: '' أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا" يعني بلال (16)، بل جرى ذلك عرفا على لسان العرب كقولهم: إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا·· فأي ضرر-إذن- يترتب على القول بالسيادة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم عند ذكر اسمه، أو يأباه الدين حتى يصير بدعة في حجم البدعة الحقيقية(17)

·وإن من العجب العجاب وغرائب هذا الأمر، أن بعض المنكرين لتسييد مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -وللأسف الشديد- تجدهم لا يرضون لا لأنفسهم ولا لزعمائهم من ينادي عليهم بأسمائهم مجردة، بل يصل بهم الحال أحيانا إلى الغضب؛ ولا ندري كيف يشتهون لأنفسهم لقب السيد، والعالم والشيخ، والإمام·· ولا يتهيبون من إنكار كل ذلك في حق سيد البشر وهو أولى به من غيره(18)· وما أحسب قول الشاعر إلا ردا على أمثال هؤلاء:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم

وفي الختام، يجدر بنا أن نشير في هذا الصدد إلى ما دأب عليه علماؤنا في المغرب-مشكورين-، ويستحق منا مزيدا من التقدير والإجلال، ويحسب من كرائمهم-وما أكثرها-؛ فقد ظلوا متشبتين بتسييد مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤيدين لسنية هذا الفعل ومنافحين عنه، وذلك من خلال ترديده في أذكارهم وأورادهم، وتصدير به حلقات دروسهم ومواعظهم، وتضمينه في تآليفهم وكتبهم··، إكبارا وتعظيما لمقام رسول الله، وتيمنا ببركة ذكر السيادة في حقه، محبة في شخصه، وإظهارا لاتباع سنته، والاستمساك بهديه، ورغبة في نيل أجر وثواب ذكره.
·الهوامش:
(1)- رواه البخاري ومسلم
·(2)- حديث موضوع·
(3)- صحيح البخاري·
(4)- سورة القلم/ .4
(5)- سنن أبي داود/ كتاب السنة، وسنن ابن ماجة/ كتاب الزهد، ومسند الإمام أحمد··
(6)- سورة الضحى /11
(7)- تأمل في قول رسول الله(ص):'' لا تقولوا للمنافق سيدا فإن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم عز وجل''رواه أبو داود في سننه /كتاب الأدب·ونقله الإمام أحمد في مسنده بلفظ شبيه به:'' لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل''·
(8)- فقد أورد ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى:'' وسيدا وحصورا ونبيئا من الصالحين'' الآية39 سورة آل عمران أن السيد: هو الشريف الكريم، والفقيه العالم، ومن لا يغلبه الغضب· كما أشار الإمام القرطبي في تفسيره لنفس الآية وذكر- فيما ذكر- أن السيد هو من يسود قومه وينتهي إلى قوله· وهذه كلها أوصاف محققة في شخص رسول الله (ص) وزيادة·
(9)- ''تندب السيادة لمحمد في الصلوات الإبراهيمية، لإن زيادة الإخبار بالواقع عين سلوك الأدب، فهو أفضل من تركه'' الفقه الإسلامي وأدلته:د· وهبه الزحيلي/ ج: 1- ص: ,.721
(10)- صحيح البخاري/كتاب الآذان
(11)- قال تعالى لنوح'' يا نوح اهبط بسلام''، ولادم'' ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة''، ولإبراهيم'' يإبراهيم أعرض عن هذا''، ولموسى'' وما تلك بيمينك يا موسى''، ولداود '' ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض''، وليحيى'' يا يحيى خذ الكتاب بقوة'' وآخرون···أما سيدنا محمد(ص) فخاطبه بـ:'' يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك''، ''يأيها النبي'' '' يأيها المزمل'' '' يأيها المدثر''···
(12)- عن عبد الله بن مسعود قال:'' إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه، قال: فقالوا له فعلمنا، قال: قولوا اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة·اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" · *سنن ابن ماجة/ كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها·
(13)- سورة النور/61, وتفيد الآية الكريمة دعوة صريحة وواضحة من الله للمومنين إلى التأدب مع الرسول (ص)، أي: لا تجعلوا نداءكم إياه وتسميتكم له مثل نداء بعضكم بعضا·
(14)- سورة الأحزاب/56.
(15)- سورة الحجرات/2.
(16)- صحيح البخاري/ كتاب المناقب·
(17)- يقول الامام الشاطبي معرفا مصطلح البدعة:'' عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه'' الاعتصام /ص:28
(18)- قال الزجاج( السيد من يفوق أقرانه في كل شيء من الخير)؛ نقلا عن تفسير القرطبي لسورة آل عمران/ الآية ,.
39

المتواجدون حالياً

330 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع