دار الافتاءالمصرية: نجاة أبوي النبي

دار الافتاء المصرية

الحكم في أبوَي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- أنهما ناجيان وليسا من أهل النار، وقد صرح بذلك جمع من العلماء، وصنف العلماء المصنفات في بيان ذلك، منها: رسالتا الإمام السيوطي "مسالك الحنفا في نجاة والدَي المصطفى" و"التعظيم والمِنّة بأنَّ والدَي المصطفى في الجنة". وقد سلكوا في إثبات هذا الحكم والاستدلال عليه عدة طرق أهمها: أنهما مِن أهل الفَترة؛ لأنهما ماتا قبل البعثة ولا تعذيب قبلها

 

وقد صرح أئمة أهل السنة أن مَن مات ولم تبلغه الدعوة يموت ناجيًا، ومِمَّن صرح بذلك العلامة الأَجهُورِي فيما نقله عنه النفراوي في "الفواكه الدَّواني"، وشرف الدين المُناوي فيما نقله عنه السيوطي في "الحاوي"، ونقل هذا القول السِّبط ابن الجَوزي عن جماعة من العلماء منهم جَده، وجزم بهذا القول العلامة الأُبِّي في شرحه على صحيح مسلم، ومال إليه الحافظ ابن حجر في بعض كتبه كما نقل عنه السيوطي في "مسالك الحنفا". واستدلوا على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾.[الإسراء: 15]، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾. [الأنعام: 131]، وبآيات وأحاديث أخرى.

ووالدا المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- مِن أهل الفترة؛ لأنهما ماتا ولم تبلغهما الدعوة؛ لتأخر زمانهما وبُعدِه عن زمان آخر الأنبياء، وهو سيدنا عيسى -عليه السلام-، ولإطباق الجهل في عصرهما، فلم يبلغ أحدًا دعوةُ نبي من أنبياء الله إلا النفر اليسير من أحبار أهل الكتاب في أقطار الأرض كالشام وغيرها، ولم يعهد لهما التقلب في الأسفار ولا عمَّرا عمرًا يمكن معه البحث عن أخبار الأنبياء، وهما ليسا من ذرية عيسى عليه السلام ولا من قومه، فبان أنهما مِن أهل الفترة بلا شك. ومَن قال: إن أهل الفترة يُمتَحَنُون على الصراط فإن أطاعوا دخلوا الجنة وإلا كانت الأخرى، فإن العلماء نصُّوا على أن الوالدين الشريفين لو قيل بامتحانهما فإنهما من أهل الطاعة، قال الحافظ ابن حجر: "إن الظن بهما أن يطيعا عند الامتحان"، نقله السيوطي عنه.

وقد أورد الطبري في تفسيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾. [الضحى: 5. قال: "مِن رِضا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أن لا يَدخُل أحدٌ مِن أهل بيته النار".
الطريق الثاني الذي سلكه القائلون بنجاة أبوَي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: أنهما ناجيان؛ لأنهما لم يثبت عنهما شرك، بل كانا على الحنيفية دِين جدهما إبراهيم -عليه السلام-، ولقد ذهب إلى هذا القول جمعٌ من العلماء منهم الفخر الرازي في كتابه "أسرار التنزيل". واستدل أهل هذا الطريق بقوله تعالى: ﴿الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾. [الشعراء: 218، 219]، أي أنه -صلى الله عليه وآله وسلم- كان يتقلب في أصلاب الساجدين المؤمنين مما يدل على أن آباءه -صلى الله عليه وآله وسلم- لم يكونوا مشركين، قال الرازي: "قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: ((لَم أَزَل أُنقَلُ مِن أَصلابِ الطّاهِرِينَ إلى أَرحامِ الطّاهِراتِ))، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾. [التوبة: 28]، فوجب ألا يكون أحدٌ مِن أجداده -صلى الله عليه وآله وسلم- مشركًا". اهـ. واستدل السيوطي لهذا المسلك بدليل آخر مركب، مُلخَّصُه: أنّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ((أنا خِيارٌ مِن خِيارٍ))، وبهذا الحديث وغيره من الأحاديث والآيات الدالة على مثل هذا المعنى ثبت أنّ كل أصل مِن أصوله -صلى الله عليه وآله وسلم- مِن آدم -عليه السلام- إلى أبيه عبد الله خير أهل قرنه وأفضلهم، وقد وردت الأحاديث والآيات التي تدل على أن كل عصر مِن العصور مِن عهد نوح -عليه السلام- إلى قيام الساعة لا يخلو مِن أناس على الفطرة والتوحيد، وعليه يجب أن نقول: إن أبوَي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانا مؤمنَينِ وإلا وقعنا في المحظور، وهذا المحظور المتمثل في أحد أمرين:
أولهما: أن غيرهما ممن هم مؤمنون -إن كانا مشركَينِ- خيرٌ منهما، وهذا مخالف لصريح الأدلة التي منها الحديث السابق ذكره.
وثانيهما: أن نقول: إنهما خير من المؤمنين مع كفرهما، وبهذا نقول بتفضيل الكافرين على المؤمنين؛ ولكي نخرج من هذا المحظور وجب أن نقول بأنهما مؤمنان.
والطريق الثالث الذي سلكه القائلون بنجاتهما: أنهما ناجيان؛ لأن الله تعالى أحياهما له -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى آمَنا به -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهذا المسلك مال إليه طائفة كثيرة مِن حفاظ المحدِّثين وغيرهم، منهم: الخطيب البغدادي وابن شاهين وابن المُنَيِّر والمحب الطبري والقرطبي. واحتجوا لمسلكهم بأحاديث ضعيفة، ولكنها ترقى إلى الحسن بمجموع طرقها.

وقد ردَّ أصحاب هذا المسلك على أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قد نُهِيَ عن الاستغفار لهما بأن الإحياء متأخر عن النهي، فكان حكمه ناسخًا لحكم النهي. قال القرطبي: "لا تَعارُضَ بين حديث الإحياء وحديث النهي عن الاستغفار؛ فإن إحياءهما متأخر عن النهي عن الاستغفار لهما؛ بدليل حديث عائشة أن ذلك كان في حجة الوداع؛ ولذلك جعله ابن شاهين ناسخًا لما ذكر مِن الأخبار". اهـ.

فهذه مسالك العلماء الذين قالوا بنجاة والدَي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهي مسالك قوية مؤيَّدةٌ بالدليل والبرهان، وعليها جماهير علماء الأمة، أما الأحاديث التي استدل بها بعضهم ليُرَوِّجوا لرأي تفوح منه رائحة البُعد عن حب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والإقلال مِن قدره الشريف المُنِيف مع أن الله سبحانه وتعالى قال له: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾. [الضحى: 5]، فهذه الأحاديث إما أساؤوا فهمها، أو لم تكن لهم دراية بالعلوم المساعدة لاستنباط الأحكام؛ مثل علم الحديث وأصول الفقه، فجاء كلامهم على هذه الأحاديث مجانبًا للصواب، وخطيرًا في جناب حبيب رب الأرباب سيدنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-. فلفظ ((أبي وأباك في النار)) الوارد في حديث أنس -رضي الله عنه- عند مسلم لم يتفق الرواة على لفظه، وإنما ذَكَرَ هذا اللفظَ حَمّادُ بن سَلمة عن ثابت عن أنس، وقد خالفه مَعمَر عن ثابت فلم يذكر ((إنّ أبي وأباك في النارِ))، ولكن قال له: ((إذا مَرَرتَ بقَبرِ كافِرٍ فبَشِّره بالنارِ)). ومعمر راوي هذه الرواية أثبتُ عند أهل الحديث مِن حماد؛ فإن حمادا تُكُلِّم في حفظه، ووقع له أحاديث مناكير ذكروا أن ربيبه دسها في كتبه وكان حماد لا يحفظ، فحدَّث بها فوَهِم، ومِن ثَمَّ لم يُخَرِّج له البخاري شيئًا، ولا أخرج له مسلم في الأصول إلا مِن روايته عن ثابت، فلا شك أن رواية معمر أثبت من رواية حماد، والذي نراه أن حمادًا وكأنه روى هو أو أحد الرواة عنه الحديثَ بالمعنى، فوقع هذا الخطأ منه أو من أحد الرواة عنه.

هذا كلام أهل الحديث في هذه الرواية من جهة إسنادها، أما من جهة الدراية فإن هذا الحديث باللفظ الأول لو ثبت لوجب أن يُفهَم فهمًا صحيحًا، وهو الفهم الذي يجعل الحديث لا يتعارض مع الآيات والأحاديث السابقة الدالة على نجاة أبوَي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فما المانع أن يكون المقصود في قوله: ((أبي)) عمَّه أبا طالب؛ لأن القرآن جاء باستعمال لفظ الأب في حق العمِّ؛ قال تعالى: ﴿قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾. [البقرة: 133]، فأطلق على "إسماعيل" لفظ الأب وهو عم يعقوب، وكانت من عادة العرب أن تجعل العمَّ أبًا، فتنادي ابن الأخ بالابن حتى قال مشركو قريش لأبي طالب: "قل لابنك يَرجِع عن شَتم آلهتنا" يقصدون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكانت تسمية أبي طالب أبًا للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- شائعة في قريش؛ لأنه -صلى الله عليه وآله وسلم- رُبِّيَ في بيته وكُفِلَ فيه، وقد ثبت أن أبا طالب يكون في ضَحضاح مِن النار، فيكون هو المقصود بلفظ ((أبي وأباك في النار)).

وقد أجاب بعض العلماء كابن عابدين وغيره بأن هذه الأحاديث منسوخة؛ لأن حديث الإحياء تأخر عن هذا الحديث فيكون ناسخًا له، وقد نقل الحافظ السيوطي هذا القول عن جماعة من العلماء في "مسالك الحنفا"، وعليه فلا يصح الاحتجاج بها.

والقول بنجاة والدَي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- هو ما عليه الفتوى بدار الإفتاء المصرية؛ وقد صدرت بذلك فتوى فضيلة مفتي الديار المصرية الأسبق العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي، والتي قال في آخرها في حكم مَن زعم أن أبوَي المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم- ليسا مِن أهل الإيمان: "قد أخطأ خطأً بيِّنًا؛ يأثم ويدخل به فيمن آذى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، ولكن لا يُحكَم عليه بالكفر؛ لأن المسألة ليست من ضروريات الدِّين التي يجب على المكلَّف تفصيلها. هذا هو الحق الذي تقتضيه النصوص وعليه المحققون من العلماء". اهـ.

ونصيحتنا للشباب المنتسبين للدعوة إلى الله أن يتقوا الله في الأمة ولا يبالغوا في إطلاق الأحكام قبل الفهم والبحث، وإن ضاقت بهم ملكاتهم العقلية والعلمية فقد وصف لهم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الدواء مِن هذا المرض فقال: ((إنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ))، فعليهم سؤال أهل العلم بدلا مِن إيقاع أنفسهم في اللعن والخروج من رحمة الله بالتعدي على جناب الحبيب -صلى الله عليه وآله وسلم-، فقد ذكر السُّهَيلِي والنفراوي أن القاضي أبا بكر ابن العربي أحد أئمة المالكية سُئِل عن رجل قال: إنّ أبا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في النار، فأجاب بأن مَن قال ذلك فهو ملعون؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾. [الأحزاب: 57]. قال: "ولا أذًى أعظم مِن أن يقال عن أبيه إنه في النار". فليتقوا الله وليخشوا لَعنَه وإيذاءَ حبيبه -صلى الله عليه وآله وسلم- المستوجب للعن فاعله، ونصيحتنا لهم أيضًا بألا يشغلوا الأمة بخلاف لا طائل مِن ورائه، فقد قال العلامة ابن عابدين في "حاشيته" عن هذه المسألة: "وبالجملة -كما قال بعض المحققين-: إنه لا ينبغي ذكر هذه المسألة إلا مع مزيد مِن الأدب، وليست مِن المسائل التي يضرُّ جهلها أو يُسأل عنها في القبر أو في الموقف، فحِفظ اللسان عن التَّكَلُّم فيها إلا بخير أولى وأسلم".

رقم الفتوى الصادرة من أمانة الفتوى 2623

المتواجدون حالياً

330 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع