حكمته مع من أذنب من صحابته

الشيء الذي نعرفه أن الإنسان إذا تعرف إلى الله جل جلاله ، وأقبل عليه، وذاق حلاوة القرب ، يتجه إلى أن يفيض على الآخرين مما أفاء الله عليه ، ولكن الشباب أحياناً يتلفتون حولهم فيجدون أقارب، جيران أصدقاء ، هذا تلبس في مخالفة، وهذا قصر في ناحية، وعندئذ بدل أن يلجئوا إلى التلطف، وإلى الموعظة الحسنة ، وإلى البيان، وإلى التعليم يلجأ إلى التعنيف، أو إلى التقييم ، أو إلى التكفير ، أو إلى أن يرى نفسه فوق هذا الذي تلبس بمعصية .

 

أنا سأريكم في هذا الدرس مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق، وحبيب الحق، النبي الذي عصمه الله عز وجل، الذي وصفه بأنه لعلى خلق عظيم، الذي أقسم بعمره الثمين قال: لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون..
لكن بادئ ذي بدء هل تعتقد أن أحداً من العالمين أكمل من رسول الله؟ وهل تعتقد أن أحداً من العالمين أحكم في تصرفاته من النبي صلى الله عليه وسلم ؟.. إن كنت كذلك فبينك وبين أدنى درجة في الإيمان مراحل فسيحة، وإن كنت تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم بمفرده وهو مشرع، وهو قد حقق الكمال البشري فهذه سيرته، وهذه أساليبه الرفيعة، وقد قال عن نفسه: " إنما بُعثت معلماً، إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

شاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " يا نبي الله أتأذن لي في الزنا..
ما قولك ؟ شاب يخاطب النبي، يخاطب سيد الخلق، يخاطب المعصوم، يخاطب الذي هو في أعلى درجات العفة، يقول له: ائذن لي بالزنا، فصاح الناس به.. يعني شيء غير معقول، تجاوز إلى درجة غير معقولة، فقال عليه الصلاة والسلام: " قربوه، قربوه، ادن فدنى حتى جلس بين يديه ".. هذا أكمل موقف، النبي الكريم قال:
(( علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف ))
[أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة]

.. أنا أعرف أشخاصاً كثيرين كانوا معنفين في حياتهم، وقد ضغطوا على أبنائهم ولم يعلموهم فلما توفاهم الله عز وجل، انتكسوا نكسة عظيمة وضاعوا وأضاعوا، أما الآباء الذين
علموا أبناءهم، وهذبوهم، وربوهم، هؤلاء بعد مماتهم كانوا كحياتهم.
سيدنا عمر فيما أذكر رأى امرأة مريضة تطوف بالبيت، ويبدو أن مرضها يعدي، فقال: يا أمة الله الزمي بيتك.. توفي عمر، وبقيت تلزم بيتها، قيل لها اخرجي، إن الذي نهاك عن الخروج قد مات قالت: والله ما كنت لأطيعه حياً وأعصيه ميتاً.

يجب أن تربي من حولك، يجب أن تربي أولادك، يجب أن تربي تلامذتك، يجب أن تربي أقرباءك بطريقة تعلقهم بالله،تربطهم بالله عز وجل، هو معهم أين ما كانوا. فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام، هذا إنسان وقح في مفهوم الناس، متجرئ، متطاول، يسأل النبي أن يأذن له أن يزني، قال: ادن مني، قال: حتى جلس بين يديه، فقال عليه الصلاة والسلام: أتحبه لأمك، قال: لا جعلني الله فداك، فقال عليه الصلاة السلام: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك، قال: لا جعلني الله فداك، قال عليه الصلاة والسلام: كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم "..
هل بعد هذا المنطق منطق ؟ هل بعد هذه الحجة حجة ؟ هل بعد هذا التلطف تلطف ؟ هل بعد هذا الإقناع إقناع ؟ هل بعد هذا الصدر الواسع صدر أوسع ؟ هل بعد هذا الحلم النبوي حلم أشد ؟..
قال: حتى ذكر العمة والخالة.. وهو يقول في كل واحد لا جعلني الله فداك، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: كذلك الناس لا يحبونه.. ثم وضع النبي عليه الصلاة والسلام يده على صدره وقال:
(( اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه، وحصن فرجه، فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا ))
[أخرجه الإمام أحمد]

إذا دعوت إلى الله فكن بهذا الخلق، إذا دعوت إلى الله فكن بهذا الصدر والواسع، إذا دعوت إلى الله فكن بهذا الحلم.
أنت لست قاضياً بل أنت داع.. كلمة قالها أحد الدعاة الكبار في بلد إسلامي قال: نحن لسنا قضاة ولكنا دعاة، أنا علي أن أعين أخي على الشيطان، لا أن أعين الشيطان على أخي، ليس من شأني أن أقيم ولا أن أحكم ولا أن أوزع الإيمان والكفر على الناس، شأني أن أهديهم سواء السبيل. يعني لن يسمح الله لك أن تكون باباً له إلا بهذا الخلق، لن يجري الله على يديك الخير إلا بهذا الخلق، لن يعطيك رتبة الإيمان..


﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)﴾
[سورة السجدة الآية 24]
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾
[سورة يوسف]

يجب أن تملك الدليل، وأن تملك التعليل، وأن تعرف الحكمة، وأن تعرف العلة، وأن تتكلم بعلم، وأن تحكم العقل فيما سُمح لك أن تحكم العقل به، وأن تحكم النقل فيما أوجب عليك الشرع أن تحكم النقل به.
هذا موقف.. موقف ثان: المؤمن ـ أيها الإخوة ـ وقاف عند كتب الله دققوا في هذه الآية:


﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً (36)﴾
[سورة الأحزاب]

أنت تختار تأكل فاصولياء أم بامية صحيح، تختار تسكن في هذا البيت أم في هذا البيت، تختار الوظيفة أو عمل حر، أما أن يكون لك اختيار فيما أمرك الله به !.. إن ترددت فلست بمؤمن..
ألا تذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل سيدنا زيداً على رأس جيش في مؤتة فقال: إن قتل فجعفر، وإن قتل فعبد الله بن رواحة.
ألا تذكرون أن عبد الله بن رواحة ـ فيما تروي بعض السير ـ حين قُتل زيد، ثم قُتل جعفر، وجاء دوره في القيادة وكان شاعراً تردد قليلاً وقال:

يا نفس إلا تُقتلي تمـــوت هـذا حمـام المـوت قد صـليـت
إن تفعلي فعلهما رضيت وإن توليت فقد شقيــــــــت

وقاتل حتى قتل.. النبي عليه الصلاة والسلام قال: أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قُتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم سكت النبي فلما سكت النبي قلق أصحابه على أخيهم الجليل عبد الله بن رواحه قالوا: يا رسول الله ما فعل عبد الله ؟ صمت النبي صمتاً يوازي ترددهم، قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قُتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه.


يعني الدرجة هبطت قليلاً، لأنه تردد، كنت أوضح هذه القصة بمثل مرة في دمشق رجل أمام حاوية، فإذا بكيس أسود يتحرك، حركة هذا الكيس لفتت نظره، إذا هو بطفل موضوع في كيس قد وُلد لتوه وأُلقي في الحاوية.. القصة انتهت، أنا أتممتها من خيالي. لو أن هذا الذي وجد هذا الكيس أخذه واتجه به إلى مستشفى، وحضنه في حاضنة، ورعاه، والقصة طويلة إلى أن أصبح هذا الجنين طفلاً، ثم شاباً تعهده بالدراسة، إلى أن أصبح طبيباً، أرسله إلى بلد غربي، فعاد بأعلى شهادة في الطب، بورد، وفتح عيادة، وزوجه ابنته، أعطاه ما يقيم حياته. هذا الذي أنقذ هذا الطفل من الحاوية رأى مرةً زوج ابنته في الطريق يركب سيارته، قال: يا فلان أوصلني إلى المكان الفلاني. تريث هذا الطبيب الذي هو إن صح التعبير في كل ما هو فيه من فضل عمه، إذا تردد وقال بعد أن تردد قال: اركب، اركب سأوصلك.. ألا يُعد هذا التردد في حق عمه جريمة ؟..
فهذا الصحابي تردد قليلاً في بذل حياته، فقال عليه الصلاة والسلام: وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، لذلك الآية الكريمة:

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..﴾

لابد أن توطن نفسك بعد أن عرفت الله أن أمر الله فوق كل شيء فوق حياتك، يا رب لا أعصيك مهما كلف الثمن، مهما بلغ الثمن.. النبي الكريم عرضوا عليه أجمل الفتيات، وأن يكون أغنى الناس، وأن يكون أمير مكة، قال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
هذا هو الثبات على المبدأ، الإنسان لا يرقى عند الله إلا بالثبات، وهناك امتحانات كثيرة.
أخرج الترمذي وابن ماجه عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، يعني بقيت مدة من الزمن، ثم طلقها تطليقة حتى انقضت العدة فهويها ثانية، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له والدها: يا لكع، يعني يا لئيم، أكرمتك بها، وزوجتك فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبداً، قال: فعلم الله حاجته إليها، وحاجتها إليه، فأنزل:


﴿ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)﴾
[سورة البقرة]

الآن دقق في موقف الصحابي والد هذه الفتاة.
فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة، ثم دعاه وقال: أزوجك وأكرمك..
لذلك قال سيدنا الصديق: لا يحتقرن أحد أحداً من المسلمين فإن صغير المسلمين عند الله كبير..


(( رب أشعث ذي طرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره))
[أخرجه مسلم]
هذا الأدب.. إياك أن تزهو بطاعتك، إذا زهوت بطاعتك انقلبت معصية. رقصت الفضيلة تيهاً بفضلها فانكشفت عورتها..
إياك أن تزهو بطاعتك، إن كنت مطيعاً لله فذب حباً وشكراً لله على أنه مكنك من طاعته..
هذه قصة ثانية.
يعني سمعاً وطاعة يا رب، أزوجك وأكرمك.. هل أنت وقافاً عند كتاب الله ؟ هل سمعت آيةً كريمة، أو حديثاً شريفاً تراجعت مباشرة فقلت سمعاً وطاعة يا رب، أو سمعاً وطاعة يا رسول الله، ما دامت هذه سنتك فأنا عند سنتك. أجمل صفة يوصف بها سيدنا عمر أنه كان وقافاً عند كتاب الله.. مرةً غضب من رجل أغلظ عليه القول، فقال له أحد الجالسين، أما سمعت الله يقول: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، فوقف عند هذه الآية.

لنبي عليه الصلاة والسلام إن رأى صحابياً، أو رأى مؤمناً قد زلت قدمه، أو انحرف سيره، ماذا كان يفعل ؟ ما كان يسميه باسمه إطلاقاً كان يصعد المنبر ويقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا.. حتى إنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: " لا تحمروا الوجوه ". لا تحرج أحداً والقصة معروفة عندكم ؛ هذا الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة، ثم صلوا جميعاً الظهر، وأذن العصر، فقاموا ليصلوا رائحة صدرت من أحدهم فيما بين الصلاتين، فقال عليه الصلاة والسلام: كل من أكل لحم جذور فليتوضأ، قالوا: يا رسول الله كلنا أكلنا هذا اللحم قال: كلكم فليتوضأ.. ".
ما هذا الخلق العظيم ؟ ستر هذا الإنسان..
مرةً حدثتكم عن قاضي كان مفتي في الشام قبل خمسين عاماً تقريباً كان قاضياً أولاً، جاءته امرأة في أثناء صعودها إليه صدر منها صوت يستحيا به، فامتقع لونها، وذابت من خجلها، فلما وصلت إليه قال: ما اسمك يا أختي ؟ قالت: اسمي فلانة، قال: ما سمعت أعيدي، قالت: اسمي فلانة، قال: ما سمعت أنا ضعيف السمع ارفعي صوتك، قالت لأختها أرأيت معناها لم يسمعنا.. وهو ذو سمع مرهف..
إذا ما كان بلا خلق، إذا كان بلا أدب، بلا حياء، بلا عفاف، كيف يتجه الناس إليك، كيف يحبونك، كيف يحبون هذا الدين ؟..
" أنت على ثغر من ثغر الإسلام فلا يؤتين من قبلك ".
ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا عمار شداد قال: حدثني أبو أمامة أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي، فأعرض عنه، ثم قال إني أصبت حداً فأقمه عليه، فأعرض عنه، ثم قال يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي فأعرض عنه، فأقيمت الصلاة، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي،قال: هل توضأت حين أقبلت، قال: هل صليت معنا حين صلينا، قال: نعم قال: اذهب فإن الله قد عفى عنك ".


طبعاً استنبط العلماء من هذا الحديث أحكاماً كثيرة، من هذه الأحكام: من اعترف بذنب ولم يحدده بالذات، فالنبي مال إلى العفو عنه.
كونوا واقعيين، إنسان لغط في عرض ابنتك، ما موقفك منه، لك ابنة طاهرة عفيفة، إنسان لغط في عرضها، وأشاع في المدينة أنها انحرفت وأنت محسن إليه، تقدم له كل شهر معونة، سيدنا الصديق كان ينفق على مسطح ابن أثاثة لمسكنته، فلما كان حديث الإفك أشاع في المدينة الخبر وروجه ونقله، فلما علم الصديق حلف أن لا ينفق عليه أبداً، فأنزل الله جل جلاله:


﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)﴾
[سورة النور
هذه القصة تكفينا، مهما أساء الإنسان إليك يجب أن تحلم عليه.
يُروى أن أبا حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، دخل عليه رجل وشتمه وهو في الدرس، وأكثر، فما التفت إليه، ولا قطع كلامه، ونهى أصحابه عن مخاطبته، فلما فرغ وقام تبعه إلى باب داره، فقام على بابه وقال للرجل هذه داري، إن كان بقي معك شيء فأتمه حتى لا يبقى في نفسك شيء، فاستحى الرجل..


ومرةً صحابي استفزه أحدهم فقال: إن كنت صادقاً فيما تقول غفر الله لي، وإن كنت أنا صادق فيما أقول غفر الله لك، وانتهى الأمر..
يعني أنا أقول: حينما تتعامل مع المجتمع، أنت مؤمن، قال تعالى:


﴿ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾
[سورة النساء من الآية 94]
الله عز وجل أكرمك بالهدى، أكرمك بالنور، رأيت الحق حقاً والباطل باطلاً، نور الله قلبك، حملك على طاعته، حببك إلى خلقه أرشدك إلى طريقه الصحيح، حبب إليك بيته والمؤمنين.. هؤلاء الذين حولك هم الآن على غير ما تريد، لكن من أدراك أنهم إذا تابوا إلى الله سبقوك، من أدراك أنهم إذا اصطلحوا مع الله تجاوزوك. من أدراك ؟.
قال تعالى:


﴿ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)﴾
[سورة البقرة]
وضحت هذه الآية بمثل ؛ أب على فراش الموت، له ابن كبير رعاه رعاية تامة، أنفق عليه، اعتنى بتربيته، بتعليمه، حتى أصبح في أعلى درجة، وله أخوة صغار، يقول له: يا بني كما اعتنيت بك وعلمتك وربيتك، وهذبتك، وأمددتك بالمال حتى صرت في هذا المستوى، لا تنس أخوتك الصغار، اعتن بهم كما اعتنيت بك.
فكما أكرمك الله بالهدى عليك أن تكرم الناس بالبيان والتوضيح لا أن تعاديهم، لا أن تصنفهم، لا أن تكفرهم، لا أن تحتقرهم، لا أن تستعلي عليهم، هذه كلها صفات لا ترضي الله عز وجل.
سيدنا يوسف، لما قال:


﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)﴾
[سورة يوسف]
أيهما أخطر، الجب أم السجن ؟ الجب.. الإنسان بالسجن حياته مضمونة، ويأكل ويشرب، وحتى هناك من يعالجه إذا مرض ، لكنه في الجب حياته في خطر، طعامه غير موجود، معرض للموت سريعاً.
هذا الذي في الجب حياته في خطر، ففضل الله عز وجل إذا أردنا أن نوازن بين الجب والسجن فحينما أنقذه من الجب أعظم بكثير من إنقاذه من السجن، ومع ذلك النبي الكريم ما ذكر الجب لئلا يُحرج أخوته، لئلا يذكرهم بجريمتهم، لئلا يخجلهم، لئلا تحمر وجوههم خجلاً منه. قال:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي
ما قال من بعد أن فعلتم بي ما فعلتم، بل قال:


﴿ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾
اعتبر نفسه نداً له، وأنه كان بينهم خصومه، وجميعهم في الإثم سواء والشيطان نزغ بينهم، أيضاً هناك تساوي.
لما قال الله عز وجل:


﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
[سورة سبأ من الآية 24]
عندما تناقش إنسان قل له يا أخي النقاش سجال بيني وبينك، ونحن جميعاً تحت الحق، إما أن أكون على حق، أو تكون أنت على حق. المستوى المتوازي يحبب إليك الناس، أما إن قلت: أنت ضال وأنا سأهديك، بهذه الطريقة لا ينصاع لك ولا يستجيب.
القصة التي تلفت النظر، لما تجهز النبي عليه الصلاة والسلام لفتح مكة كتب حاطب ابن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بذلك.
الآن ما فعله حاطب يُعد في العرف الحديث خيانة عظمى يستحق عليها القتل.
كتب حاطب ابن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم، فخذوا حذركم.
هذا موقف صحابي ؟.. الحرب خدعة، وإذا تسرب خبر قبيل الحرب بطلت الحرب كلها، أساساً الانتصارات في الحروب العالمية أساسها المبادرة.. فإذا تسرب خبر إلى المعسكر المقابل ينتهي الأمر..
فحاطب ابن أبي بلتعة كتب إلى أهل مكة يقول في كتابه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يغزوكم فخذوا حذركم، ثم أرسل الكتاب مع امرأة مسافرة إلى مكة، فنزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فبعث النبي عليه الصلاة والسلام علياً، والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موقع) فإن به ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فأتوني به.
فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة، فقلنا لها: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا لها: أخرجي الكتاب أو نلقي عنك ثيابك، فأخرجته من عقاصها
(من ضفيرة شعرها) فاتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي، فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا يا حاطب؟.. (طبعاً بالعرف الحديث خيانة عظمى يستحق الإعدام) قال حاطب: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش (يعني أنا تابع، لست من فروعهم، ولست أصيلاً فيهم) إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بهم أهلهم وأموالهم بمكة (يعني أصحابك المهاجرين لهم قرابات في مكة يحمون أهلهم وأموالهم فيها) فأحببت إن فاتني ذلك من النسب منهم أن أتخذ يداً يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً يا رسول الله ولا ارتداداً عن ديني.
فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق.
فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
يعني أنا أحاول أن أفهم القول بالشكل التالي: اعملوا آل بدر فإنه مغفور لكم.. يعني إذا ارتكبتم المعاصي، سرقتم، غششتم، يعني أنتم مغفور لكم، أنا أعتقد أن هذا المعنى ليس وارداً إطلاقاً. المعنى: بعد أن جاهدتم، وبلغتم هذه المرتبة العلية، إنكم لن تفعلوا شيئاً تعاقبون عليه يعني بلغتم من النضج والحب، والبصيرة، والرؤية الدرجة الجيدة.
ما هذا الموقف من رسول الله ؟ هذا يستحق القتل، ولكن قال: أنا ما كفرت، وما ارتددت عن ديني، ولكن أصحابك المهاجرون لهم قرابات في مكة، هذه القرابات تحمي أموالهم وأقرباءهم، أما أنا لصيقاً بأهل مكة، لست من ذواتها، من أنفسها، إنني لصيق بها، أردت أن تكون لي يداً عندهم بهذه الطريقة.
فنزلت الآية الكريمة:


﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)﴾
[سورة الممتحنة]
نزل نهي بهذا.. ولكن النبي عليه الصلاة والسلام وقف الموقف العطوف، الموقف الرحيم، الموقف الذي تفهم فيه واقع هذا الصحابي.
فهذا النبي هو قدوتنا، وأسوتنا، وهو المثل الأعلى، فإذا أردت أن تعامل الناس فاهتدي بهذه الطريقة.


قال أحد الخلفاء بعد أن غضب مرةً فسب رجلاً من أشراف الناس، فقال هذا الرجل: أتسبني وأنت خليفة، فقال هشام: اقتص مني إذاً، قال: لا أريد أن أكون سفيهاً، قال: تعوذ مني بمال، قال: ما كنت أبيع شرفي بالدرهم والدينار، قال: اجعلها لله، قال: هو لله ولك، فخجل هشام.
ما دمنا في مناسبة المولد النبوي الشريف، وما دام الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذي يرفعنا عند الله، ويرفعنا عند رسوله صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق، أرأيتم من خلال هذه القصص كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام أميل إلى العفو، والتفهم والرحمة، والتجاوز.. كلكم سمع مقالة عبد الله بن الزبير حينما أرسل إلى معاوية كتاباً يقول: أما بعد فإن رجالاً من قومك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأن والسلام.
معاوية ابن أبي سفيان عنده ابنه يزيد، قال: يا يزيد ما ترى أن نفعل معه، فقال يزيد: أرى أن ترسل له جيشاً أوله عندك وآخره عنده يأتوك برأسه. هذا تطاول، واجتراء على مقام الخلافة، فقال معاوية: غير هذا أفضل، وأمر الكاتب أن يكتب: أما بعد فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه لقد نزلت له عن الأرض وما فيها.
يأتي الجواب:
أما بعد يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل.
دفع الكتاب لابنه يزيد وقال: يا بني من عفى ساد، ومن حلم عظم ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
فإنك كلما عفوت عن الناس زادك الله عزاً، وكلما حلمت عليهم زادك الله رفعة، وكلما تجاوزت عن أخطائهم زادك الله كرامة، هذه سنة النبي، ألا تستمع إلى قول الله عز وجل:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ

[سورة فصلت من الآية 34]

أحسن، ما وزنها الصرفي ؟ اسم تفضيل، يعني إذا كان هناك ردود لموقف كيف ترد ؟ يجب أن تختار أحسن هذه الردود، ألطف الكلمات، أدق التعبير، أحكم التصرفات.


﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾
[سورة فصلت]

لذلك مواقف النبي، شمائل النبي، أخلاق النبي، تصرفات النبي النبي كأب رحيم، كزوج كريم، كصديق وفي، كقائد محنك، كقائد عسكري كرجل سياسي، كداعية إلى الله بإذنه، أفعاله وأقواله ومواقفه، هذه تشريع لنا، هذه المواقف ليست للتأمل، وليست للاطلاع، ولكنها للتطبيق.
فالإنسان إذا طبق ما سمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نمى في نفسه الإيمان، فإذا اكتفى بالسماع، ولم يكن في المستوى المطلوب هبطت درجته، وأصبح في المستوى الذي لا يرضي الله عز وجل

المتواجدون حالياً

324 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع